الخميس، 12 يناير 2017

بقلم فراس الوائلي

سفر الجمال _ فراس الوائلي

السفر من الحق الى الحق بالحق
وهو ثاني أسفار العشق الإلهي ..
وهو السفر في صفات الجمال السرمدي للحق سبحانه بعد إشراق المعية الإلهية في النفس الإنسانية " وهو معكم أين ماكنتم " بالموت الاختياري من خلال " مجاهدة النفس " وترويضها لكل فعل جميل وقد أشار القرآن الى هذه الحقيقة بقوله " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " والسبل إلى الله بعدد أنفاس الخلائق وقد جاء في المأثور عن النبي محمد " ص" بقوله " موتوا قبل أن تموتوا " أو كما عبر السيد المسيح " عليه السلام " بقوله " لن تلجوا ملكوت الله حتى تولدوا مرتين " أو كما ورد في الكتاب المقدس في العهد القديم بوجوب التقييد والألتزام الكلي " بالوصايا العشر" وأيضا أشار السيد المسيح " عليه السلام "بقوله " أن أبناء الله يجب أن يكونوا كاملين كما أن أباهم الذي في السماء كامل هو " والآب في اللاهوت المسيحي إشاره الى الله من حيث الذات والأبناء هم الخلق وتجلياته وليست البنوة الجسدية كما أدان الشر في القلوب وهي إشارة الى كل مقامات الخطايا والكدورات في النفس البشرية التي تشاغب بصيرة الإنسان وتحجبه عن كماله وتكامله الملكوتي .
وإن تنوع الخطاب في تعابير الأنبياء إلا أن المعنى المراد واحد وهو تزكية النفس والسير بها نحو مراتب كمالها الوجودي .
ولكي تشرق الحقائق في النفس لابد من تخليصها من الشوائب وكدورة المشارب ليذوق الإنسان " خمرة الوجد " بعيون البصائر وبإشراق الحقائق ليصل الى مقام يكون فيه ذائبا ببهاء الجمال الإلهي وهو نهاية السفر الأول ..
ومع نهاية السفر الأول تولد الشطحات لبعض المتصوفة فيذهب بالقول بالحلول أو الإتحاد كما حدث للحلاج حين قال " أنا الحق " وقوله أيضا " ليس في جبتي سوى الله " وهوما يعبر عنه " بالسكر الصوفي " حيث يكون الإنسان في سكرة تامة حيث خمر المنظر يسلب الألباب فلا يرى ذاته مطلقا بل هو ملتذ بجمال الجمال وحده سبحانه وفي هذا المقام يكون السالك حبيس تلك الدرجة الإشراقية فلا يستطيع السير تكاملا نحو السفر الثاني .
ومنهم من يقول بالإتحاد أي إتحاد الحق بالخلق " وحدة الوجود " الذي أتهم به " ابن عربي " وغيره من كبار المتصوفة والفلاسفة المتألهين في ماضي الأزمان وما تلاها ففي الفلسفة الهندية أشارات واضحة لوحدة الوجود ولكن ليس بالمستوى الذي نظر له " ابن عربي " وبالرغم من ذلك فأن وحدة الوجود التي قال بها " ابن عربي " بعيدة عن أتهامات المتهمين لعدم قدرتهم الوقوف على فك شفرات بيانه العميق المطلسم الذي أراد لأصحاب وحدة الشهود فهمه دون غيرهم فهو مقام لخواص الخواص وليس للعوام وعوام العوام حين قال " سبحان من أظهر الأشياء وهو عين وجودها " وسأخصص بحثا مستقلا لشرح وحدة الوجود مفصلا في مورد آخر لضيق المقام هنا .
وحدوث الشطحات يعود بالإساس إلى نقص في مقدمات السفر الأول من حيث الرياضات والتأملات الروحية وقد ذهب بعض بالقول بأن مصدرها هو نقص في المقدمات الشرعية للسالك والعارف والفيلسوف المتأله وأختلاط الأنا بصفو المشارب وعدم الألتزام الكلي بالضوابط الشرعية من حيث النواهي والزواجر من حيث " أن يراك الله حيث أمرك ولا يراك حيث نهاك " .
والسفر الثاني يبدأ بنهاية السفر الأول وهو وجوب التخلق بأخلاق الله لكي يواصل السائر طريق التكامل الروحي والسير بإتجاه الكمال " يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه " " وأتقوا الله ويعلمكم الله " فحين يكون المعلم هو الله يكون المسير الإشراقي بإتجاه الحقيقة طافح بالنور وبعين اليقين وقد ورد عنه سبحانه في حديث قدسي " من أتاني ماشيا أتيت إليه هرولة " " ومن تقدم مني شبرا تقدمت منه ذراع " وقد ورد في خصوص هذا السفر الحديث المأثور عن النبي " ص" بقوله " تخلقوا بأخلاق الله " أو قوله " تأدبوا بآداب الله " اي بصفاته الجمالية من حيث الجود والكرم والعلم والحلم والحب والرحمة إالى اخره من صفات الجمال .
وفي هذا السفر يصل الإنسان الى مقام " الفناء " عن الذات فيفنى الإنسان عن ذاته مندكا بجمال البهاء وجلال النور فلايرى في الوجود سوى الله تعالى ويكون كالقطرة في بحر مداها اللا نهائي ..
وفي هذا السفر يولد التفاضل بين الأنبياء والأوصياء والمتصوفة والعرفاء والفلاسفة المتألهين فيكون نبي أفضل من نبي وإمام أفضل من إمام وفيلسوف أشد إشراقا من الآخر وهكذا في مقامات التفاضل الاخرى بين السالكين والسائرين الى الحق سبحانه وأيضا يكون هذا السفر الخطير منشأ للحجب النورية والمقصود بالحجب النورية هنا هو الأستغراق في صفة من صفات الله كالعلم أو الحب أو الرحمة وعدم الألتفات الى الصفات الأخرى لشدة الأنبهار في الصفة المستغرق فيها وعدم الألتفات الى الصفات الأخرى كصفة الصبر مثلا ..
ومنشأ التفاضل هو بمقدار ما يتخلق السالك والسائر بأخلاق الله تعالى " الصفات الجمالية " فكلما إزداد تخلقا بعدد أكبر من الصفات كلما إزداد كمالا مع الالتفات الى أن صفات الحق سبحانه هي صفات لانهائيه لأول لها ولا آخر وقد ورد في الحديث القدسي في مقام قرب الفرائض " مازال العبد يتقرب إلي بالفرائض حتى يكون سمعي الذي أسمع به وعيني التي أبصر بها ويدي التي أبطش بها " وقد عبر القرآن عن ذلك بقوله تعالى " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " بخلاف مقام قرب النوافل الوارد في حديث قدسي آخر " مازال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أكون سمعه الذي يسمع به وعينه التي يرى بها ويده التي يبطش بها " وقد أشار القرآن إلى هذا المقام بقوله تعالى " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم " وشتان مابين المقامين فسمع العبد محدود وسمع الله لانهائي وهذا منزل آخر من منازل السير والتخلق الإلهي سيرا في دوحات الغيوب حيث البصائر مراكب الإبحار ..
فبعض الأنبياء يتخلقون بصفات الله وبصفة تميزهم عن الصفات الأخرى كقوله تعالى " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " وقوله " ص" " إن ربي أدبني فأحسن تأديبي " وبعض الأنبياء يستغرق بصفة دون أخرى كما أشار القرآن الى ذلك مخاطبا النبي : ص" " وأصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت " أو كقوله تعالى في مورد آخر " فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ " في إشارة الى النبي يونس حين خرج من قومه ولم يلبث فيهم " وذا النون إذ ذهب مغاضبا " والقرآن يوجه النبي الى ضرورة التخلق بصفاته تعالى وبأعلى المستويات وهذا مورد أخر في الفرق بين الأنبياء من أولي العزم وهم أصحاب الرسالات العالمية عن بقية الأنبياء من غير أولي العزم الذين تختص رسالاتهم بأقوامهم دون العالم .
وفي هذا السفر تشرق بوارق الحقائق فيكون الإنسان كون نور تقطر منه جنان الضياء إشراقا لانهائيا في لحظات الإندكاك التام والفناء حبا في بحر الجمال اللانهائي .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تجمدت حروفي للشاعرة رجاء الجواهري

تجمدت حروفي كأنجماد كفيّ من الجليد لا اقدر على نثرها اشعر انني فقدت المشاعر وجفت دموع عيني من حزن عتيد ...