الأحد، 23 أبريل 2017

دراسه نقدية قصائد...صاحب خليل ابراهيم

دراسة نقدية قصائد صاحب خليل ابراهيم وثقافة الموت الدكتورة وجدان الصائغ
دراسة نقدية
قصائد صاحب خليل ابراهيم وثقافة الموت
الدكتورة وجدان الصائغ
كيف تعاملت القصيدة العراقية مع ثقافة الموت التي عايشتها على مدار ثلاثة عقود ومازالت ؟ وكيف صاغت مخيلة الشاعر العراقي المحاصر بدوامات الدم تفاصيل القصيدة ؟ هل جعلتها يوتوبيا شعرية ام مرايا نبصر من خلالها عذاباتنا المشتركة ؟ كل هذه التساؤلات قفزت الى ذهني وانا اتأمل قصائد مجموعة ( دخان التلاشي ) للشاعر العراقي صاحب خليل ابراهيم(*) - الصادرة عن وزارة الثقافة السورية ، دمشق 2002 - واراقب انامل الشاعر وهي ترصف عتبة شعرية لافتة (دخان التلاشي) ليعلن منذ البدء عن احتراقات جديدة للفينيق انها احتراقات مرمدة لاتقود الذات المعذبة الى انبعاث وانما الى اندثار وغياب ،وقد عزز هذا التأويل فهرست المجموعة الذي تمفصلت الى (قصائد الرياح ، قصائد الشجر + قصائد الماء ، قصائد النار ، قصائد الاسئلة ، قصائد تأويل الرؤية ) والتي انضوت تحتها عناوين تنز لوعة مثل (النخيل الذبيح + المغني والمخرج الكفيف + الخراب الجميل + عطش الاشجار + دخان + الشهيد + ظمأ + جفاف + مرثية + ثنائية المصير + مدن قاحلة + مخاوف الفصول ) لتضعك وجها لوجه مع عذابات طرحتها ثقافة الموت التي تسللت الى نسيج قصائد صاحب خليل ابراهيم لتصبح طقساً من طقوس الوجع الذي تطلقه الذات المتشظية في كهوف الهزائم والانتصارات الباذخة العتمة ، ليؤثث منها معمارا فنيا يتكىء الى كوميديا سوداء يمتزج فيها الضحك بالبكاء والسوريالي بالواقعي ، ويشتغل في الوقت نفسه على تقنية استدراج افق التلقي الى مناخات مخاتلة توصله الى سورة الموت الملبدة بالفناء والعدم بل انك تجد ان المتخيل الشعري يشتغل بوعي جمالي حاد على هذه الهندسة التي هيمنت بشكل لافت على قصائد المجموعة حين تجعل الموت القفل الاخير للمحكي الشعري ، تأمل مثلا قصيدته (شطرنج ، ص 69) ، ولاحظ كيف استدرج التلقي الى مناخات ترميزية مفخخة بالموت :
ذي لعبة الشطرنج يهواها الملك .
لعب الوزير مع الملك .
قتل الملك ،
فيل الوزير !
..................
لعب الوزير وقبل ان ينهي الكلامْ،
- كش ياملك ْ.
مات الوزير ....!!
من اللافت ان المتن يتكىء الى قصة وامضة تلمح عبرها وجوها غاشمة(الملك ) واخرى مخضلة بالخذلان (الوزير) ، كما تسمع اصواتا محمومة مهووسة بالقتل والسلطة واخرى مستلبة ،و تبصر احداثا دامية تتسلل اليك من خلال رقع الشطرنج ( لعب الوزير + لعب الوزير + كش ياملك) لتعكس بالضرورة عبور المتن الى رقعة الحياة (قتل الملك + مات الوزير) حيث تشهدحركة انامل صاحب خليل ابراهيم وهي تنزع عن الانوات المتحركة على المسرح النص اقنعتها الترميزية لتكون وجها لوجه مع انوات متغطرسة تربعت على عرش ازمنتنا و اهالت علينا وبشكل جماعي تراب الفجيعة والالم . زد على ذلك فان المتن بما يحمله من كوميديا سوداء يندرج تحت مظلة الادب الملتزم الذي يتحرك من الهم الفرداني الى الهم الجماعي ومن الانا الى النحن ، ومن الارض المستعرة التي تقف عليها الذات المتكلمة والمكلومة الى الارضية المشتركة للانسانية جمعاء لتعري الخطاب الايديولوجي الذي يسوغ الوأد الانساني بكل طروحاته .
وقد يقف المتخيل الشعري ليحاكم الذات التي راهنت على اللاشيء ، فخسرنا معها بلادا وامانا ، لاحظ مثلا قصيدة (امرؤ القيس يبحث عن وجهه ، ص 88) ، وتأمل كيف وظف الذاكرة الشعرية ليصف حرب عاصفة الصحراء 1991 –التفاتا الى تاريخ اصدار المجموعة – هذا الحدث الكارثي الذي عصف بالبلاد والعباد معا :
ايها الملك الضليل من ،
ياترى ،
ضللك؟
اهو الحب أم ،
نكتة ،
ام زمانك قد ضيعك ؟!
أم رياح القبائل هاجت ،
فدار الفلك ...؟!
قلت شعرا : (( قفا نبك)) ، مثل النساء .
وحدك الآن تبكي ،
وجمر الغضا ،
جللك ...!!
بيد الدهر كندة صارت ،
عفاء نرى
منزلك !
كندة ٌ ..
انكرت .
شعبها ..!
غادرت ،
صوتها ،
والمليك هلك .. !!.
من اللافت ان صاحب خليل ابراهيم يستل من الذاكرة الشعرية وجه امرىء القيس الا انك تلمح انامل الشاعر وهي تفرغه من محتواه وتسكب فيه وجع اللحظة الراجفة ليكون وجها للذات المتغطرسة التي طلبت عرشا فاضاعت وطنا وشعبا لتمنحنا تأشيرات للشتات والعدم !!،وقد عزز هذا التأويل العنونة (امريء القيس يبحث عن وجهه ) والاستهلالة المكتنزة بالتساؤلات الواخزة (من ، / ياترى ، /ضللك؟) وعلامات الاستفهام المشفوعة بعلامات التعجب (؟!) لتعكس عبور الاستفهام الى عتبات الحيرة المريرة التي توصلك الى نبرات صاحب خليل ابراهيم المتفجعة والمعنفة : (قلت شعرا : (( قفا نبك)) ، مثل النساء ./وحدك الآن تبكي ،... ) فالمتخيل الشعري لا يستدعي ببراعة بؤرة معلقة امرىء القيس (قفا نبك من ذ كرى حبيب ومنزل) واقصد ضياع المنزل واناسيه فقط وانما يستدعي ايضا ومن خلال (مثل النساء) صوت ام السلطان الاندلسي ابوعبدالله الصغير –حاكم غرناطة-حين لمحته يبكي بدموع غزار ملكا منتهبا ‏‎frown‎‏ رمز تعبيري ابك مثل النساء ملكا مضاعا / لم تحافظ عليه مثل الرجال) بل انك تلمح تداخل هذه الاصوات بصوت صاحب خليل ابراهيم الذي يعلن (بيد الدهر كندة صارت ، /عفاء نرى / منزلك !) لتكون كندة وجها آخر للمكان الموؤود (العراق) ومنازله التي استقبلت باحلامها شظايا الموت المغولي ، زد على ذلك فان المحمول اللفظي (منزلك) قد أوقد ذاكرة موغلة بالجراح فهو في الوقت الذي يحيل فيه الى منزل امرىء القيس الذي طمسته الرياح ، فانه يحيل ايضا الى قصر ابي عبدالله الصغير(قصر الحمراء) الذي غادره قهرا بعد ان سلم مفتاح غرناطة الى القشتاليين الذين رفعوا –على مرأى ومسمع منه- فوق ابراجه صلبانهم وراياتهم ، لينتقل الى اللحظة الراعفة حيث (المنزل الكبير / العراق ) الذي هشمته ريح (عاصفة الصحراء 1991) ونهشته (عملية ذئب الصحراء 1998) ودنسته بساطيل المارينز 2003 فوقف منفردا امام طوفان الدم.بل ان المفارقة التي يطرحها المتن تتمركز في (كندة ٌ ../ انكرت ./ شعبها ..!/غادرت ،/ صوتها ، ) حيث يكون المكان وجها شائها يحاصر ساكنيه ويمارس عليهم طقوس النحر الجماعي ، فاية شراسة شاء المتخيل الشعري ان يجسدها ؟ واية مرايا عاكسة وضعها النص امامك لتبصر عيانا ملامح الانكسار الجماعي لشعب وضعته الاقدار على شفا المحن والنكبات ؟ اما هندسة النص فقائمة على استدراج التلقي الى بؤرة النص المتمركزة في الخاتمة (المليك هلك ) لتكون قبالة حركة عيني صاحب خليل ابراهيم وهي ترقب سعير اللحظة الراجفة ، وتتنبأ بما سيحل بـ(كندة / العراق) –عطفا على تاريخ اصدار المجموعة – من ويلات ومآس !!.
وقد يتوقف المتخيل الشعري عند الوأد الثقافي ، فيدين بجرأة الكهنوت الفكري وحراسه العتاة ، تأمل مثلا قصيدة (شهرزاد ،ص 125) ، ولاحظ كيف اوقد الذاكرة الحكائية لتنقلك لا الى مناخات الف ليلة وليلة بل الى ليال مدججة بالصمت ، ليال لايلمع فيها الا نصل الموت :
تقول شهرزادنا :
في ليلة ،
قابلة .
احكي لكم .
عن قمر النحاس ، والحيتان والقبيله ...
...................
...................
ما اكملت .
حديثها ..
حتى غدت .
قتيله .....!!
يشكل النص بنية قصصية تتحرك عناصرها وفقا لنسقين ؛ الاول: حاضر منطوق به تحتل مساحته {(القتيلة) شهرزاد الرامزة للضمير الثقافي + الجماعة المتحلقة حولها والمتكورة تارة في ضمير الجماعة المنتسب الى شهرزاد (شهرزادنا ) ، وتارة اخرى في الضميرالمتصل بحرف الجر (لكم) + السارد العليم الذي سرد تفاصيل القصة } فضلا عن هيمنة الدايولوج المتمظهر في الاداء القولي المعرفي (تقول + احكي + ما اكملت حديثها ) الذي انشغلت به الانوات المتحركة على مساحة النص ، و النسق الاخر: مسكوت عنه يحتجب خلف استاره (القاتل) شهريار بنصاله التي اخترقت اسطر القصيدة فاخترمتها (......./ ......) ، وهي اخترامات تخفي احاديث محمومة عن الزمن الموؤود (قمر النحاس ) والراهن الملبد بالشرسة والفتك (الحيتان) ، ولعل المفارقة الدلالية تكمن في الخاتمة (حتى غدت / قتيلة ...!!) التي اضاءت اصابع شهريار وهي تتسلل الى حنجرة شهرزاد لتنحرها جهارا نهارا ، ولتغدو اخترامات السطر الاخير شاهدا على مصرع الابداع النبيل والهادف .
وقد يصوغ المتخيل الشعري شذرة شعرية تتكثف فيها الدلالات لتغدو قصيدة وامضة تدين الراهن الملبد برائحة الموت ، لاحظ مثلا قصيدة (تضاد الرغبات ، ص 111) المتشذرة تدوينيا الى ست شذرات وتحديدا الشذرة الخامسة :
وصلت ،
للجلاد الرشوه ...!
كي يترفق بالمقتول... !!.
يصوغ المتن بنية تراجيكوميدية تنبع فيها الكوميديا من قلب التراجيديا ، صورة بقدر ماتخزك بقدر ما تجعلك تضحك بمرارة وانت ترقب تحولات الحلم في زمن شرس ملبد بالفناء الجماعي ، الحلم بموت مريح ؟؟! فاي حلم نسجته انامل صاحب خليل ابراهيم ؟ واية فراشات للحلم شاء ان يطلقها لترمدها اللحظة الراعفة ؟؟! ، انت ازاء مسرور جديد (الجلاد) بسيفه المصلت على الرقاب ، زد على ذلك فان المتن يتوق من خلال اخترام السطرين الاخيرين الى اشراك افق التلقي في صياغة النص من جانب ومن جانب اخر فان هذه الاخترامات تنجح في ان تعكس حركة تعثر انامل صاحب خليل ابراهيم وهي تؤرخ لفجيعة الانسان -انى كان -، وحركة انثيال الحبر الذي عكست قطراته احداثا شرسة ملبدة بالفجيعة ، فاي ومضة شعرية صاغها المتخيل الشعري لتبقى متقدة في الذاكرة ؟!
الشذرة باختصار صرخة بوجه الحياة التي لن تمنحك الا تأشيرة للعدم ، بوجه الظالم المتجبر(الجلاد) والمظلوم المستسلم والخانع معا (المقتول) ،بوجه الانوات التي بقيت خلف السطور ترقب الحدث الدامي بعيون راعفة وعاجزة في الوقت نفسه ؟!أوليست الرشوة التي وضعها المتن بين يديك هي الوجه الاخر لليومي الملبد برائحة الخذلان والمرارة ؟!
وخلاصة القول ؛ فان قصائد مجموعة (دخان التلاشي ) للشاعر العراقي صاحب خليل ابراهيم لم تتعامل مع الموت بوصفه فناء جسديا وانما موقفا فلسفيا من الكون، ومن الوجود، ومن الراهن المعبأ برائحة الدم والخذلان ، ومن انتهاكات حرمة الذات الانسانية العزلاء الحالمة بالامان والرغيف في زمن البرابرة الجدد،لتكون متون القصائد برمتها يعري الخطاب الايديولوجي القائم على ثقافة الموت .
الهوامش :
(*): صدر للشاعروالناقد الدكتور صاحب خليل ابراهيم :
الدواوين الشعرية :
• خواطر (نثر) ، دار الآداب ، العراق 1965
• اصوات ثائرة ، دار النعمان ، العراق 1970
• حدق بوجه من تحب ، وزارة الثقافة ، العراق 1978
• قصائد للميثاق (مشترك) ، وزارة الثقافة ، بغداد 1979
• اناشيد (مشترك ) ، وزارة الثقافة ، بغداد ذ982
• حين يبتدىء الحب ، وزارة الثقافة ، بغداد 1983
• قصائد لبغداد وبيروت (مشترك) ، وزارة الثقافة ، بغداد 1989
• ايها الليل كن حارسي ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت 2000
• هي الانثى وهذا سرها ، مركز عبادي ، صنعاء 2001
• دواوين عديدة مشتركة منها : ديوان الثورة ، القمر الغائب ، ذاكرة القصيدة ، الفاو ، ديوان الاقلام ، وزارة الثقافة ، بغداد ، المركز الثقافي ، تونس
الدراسات النقدية :
• الاغتراب في الشعر العربي ، مركز عبادي ، صنعاء 2000
• الصورة السمعية في الشعر الجاهلي ، اتحاد الادباء العرب ، دمشق 2000
• ديوان الشافعي (جمع وتحقيق ) ، مركز عبادي ، صنعاء 2001
• العراقي صاحب خليل ابراهيم(*) - الصادرة عن وزارة الثقافة السورية ، دمشق 2002 - ا
مرسلة بواسطة هانى عقيل في 8:26 م
ردود الأفعال

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تجمدت حروفي للشاعرة رجاء الجواهري

تجمدت حروفي كأنجماد كفيّ من الجليد لا اقدر على نثرها اشعر انني فقدت المشاعر وجفت دموع عيني من حزن عتيد ...